فشل نتنياهو في غزة- الجيش المتردد والمقاومة الصامدة

المؤلف: منير شفيق08.19.2025
فشل نتنياهو في غزة- الجيش المتردد والمقاومة الصامدة

في بادئ الأمر، شرع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مشروع طموح يهدف إلى احتلال مدينة غزة، بل والتوسع للسيطرة على كامل قطاع غزة. لكن هذا المخطط الطموح سرعان ما ووجه بمعارضة شديدة، ما أدى إلى تراجعه القهري.

تعود جذور هذا التراجع إلى اعتراضات قوية من قبل قائد الجيش الإسرائيلي آنذاك، إيال زامير. وبينما لم يتم الكشف عن الأسباب الدقيقة التي استند إليها زامير في احتجاجه، إلا أنه من المؤكد أنها كانت تتعلق بتقييم للقدرات العسكرية المتاحة، أو بالأحرى، المخاطر والخسائر الفادحة المتوقعة في حال الإقدام على معركة حاسمة بهذا الحجم.

هذا الأمر يدعو إلى استنتاج مفاده أن الجيش الإسرائيلي ربما يكون قد أضعف مما يتصوره الكثيرون، وذلك بعد مرور ما يقارب 21 شهراً من العمليات البرية المتواصلة في قطاع غزة. تخللت هذه العمليات حرب إبادة إنسانية، وتدمير شبه كامل للبنية التحتية، والأهم من ذلك، استخدام سلاح التجويع حتى الموت ضد الشعب الفلسطيني، وخاصة آلاف الأطفال الأبرياء.

تواردت أنباء متواترة عن ضعف إقبال قوات الاحتياط على الانخراط في صفوف الجيش والمشاركة في العمليات العسكرية في غزة. كما أشير إلى خسائر جسيمة في المعدات العسكرية، بما في ذلك الدبابات والآليات المدرعة. بالإضافة إلى ذلك، تحدثت تقارير مقلقة عن انتشار الأمراض النفسية بين الجنود الذين شاركوا في المعارك البرية الضارية.

من هنا يمكن تفسير التردد الذي أبداه قائد الجيش الإسرائيلي، وخوفه من مغبة الإقدام على حرب شاملة وواسعة النطاق، حتى لو اقتصرت على مدينة غزة وحدها، وذلك لعدم التأكد من النتيجة النهائية لهذه الحرب.

ولعل أهم ما يمكن الاستدلال به فيما يتعلق بميزان القوى، هو الكم الهائل من المقالات والتقييمات التي صدرت عن قادة عسكريين مخضرمين خدموا في الجيش والشاباك والموساد. وقد ألمحوا جميعاً إلى عدم جدوى الحرب التي شنها نتنياهو منذ السابع من أكتوبر 2023.

بل إن البعض ذهب إلى اعتبار السياسات العسكرية التي أمر بها نتنياهو طوال الأشهر الماضية مدمرة للكيان الصهيوني على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولا سيما الإساءة البالغة لسمعة الكيان لدى الرأي العام العالمي. وتجدر الإشارة إلى أن قلة قليلة من الخبراء أيدت نتنياهو في مزاعمه بتحقيق انتصارات وإنجازات.

ونتيجة لذلك، أعرب أغلب الخبراء العسكريين والسياسيين عن بالغ قلقهم وتشاؤمهم إزاء إقدام نتنياهو على الزج بالجيش في حرب تهدف إلى احتلال قطاع غزة بأكمله، أو حتى مدينة غزة وحدها.

وبناءً على ذلك، لا حاجة إلى معرفة الأسباب التفصيلية التي ساقها قائد الجيش إيال زامير لعدم تنفيذ الاحتلال الكامل لقطاع غزة. فمن الممكن الاستنتاج بسهولة أنها تصب في اتجاه المخاطر الجسيمة التي تنتظر الجيش الإسرائيلي عسكرياً، إذا ما تم الدفع بقواته البرية لاحتلال القطاع بأكمله.

هذا، إذا لم يصل التشاؤم بالنتيجة المتوقعة إلى احتمال تكبيد الجيش هزيمة عسكرية ساحقة، خاصة إذا اندلعت اشتباكات قد تدفع ببعض الجنود إلى الفرار من أرض المعركة.

فالفرار في الجيوش، إذا ما حدث، يكون له تأثير معدٍ على الجنود الآخرين، تماماً كما ينتشر وباء الطاعون المهلك.

إن الاقتصار على احتلال مدينة غزة ينطوي بالضرورة على جميع المخاطر والتحفظات التي أثارها قائد جيش العدو لدى نتنياهو بشأن الاحتلال الشامل للقطاع. فالمساومة على حصر الاحتلال في مدينة غزة لا يغير شيئاً في جوهر الأمر. بل إن التردد لدى قيادة الجيش قد يكون بنفس مستوى التردد في احتلال القطاع بأكمله تقريباً، حتى في هذه المساومة الجزئية.

بطبيعة الحال، لا يُستبعد أن يكون نتنياهو قد اعتمد على أمل الضغط على حركة حماس وتخويفها، دون الوصول إلى مرحلة التنفيذ الفعلي، وذلك بهدف تمرير قرار احتلال مدينة غزة.

في المقابل، لا يمكن لتقدير موقف مدقق ومستند إلى حسابات وتقييمات سليمة أن يعتبر نتنياهو، طوال فترة الحرب البرية وحرب الإبادة والتجويع، إلا مرتكباً لأخطاء مدمرة عسكرياً بالنسبة إلى الجيش، حين أدخله في تلك التجربة وتبعاتها الميدانية. فهو لم يتمكن من إلحاق الهزيمة بالمقاومة، ولم يستطع تجنب سوء السمعة الذي لحق بالكيان الصهيوني لدى الرأي العام العالمي، وما سيصحب ذلك من خسائر إستراتيجية في المستقبل.

هنا، لا يوجد تفسير لهذا العناد والإصرار على ارتكاب الأخطاء والجرائم والتدمير الذاتي، سوى حرص نتنياهو على البقاء في السلطة للحفاظ على تحالفه مع بن غفير وسموتريتش، اللذين يعتبران لاعبين متهورين وأحمقين في السياسة. بالإضافة إلى حرصه الشديد على تجنب المحاكمة والسجن، في حال أوقف الحرب ورفع ترامب غطاءه عنه.

لكن هذا العناد، مع كل هذه الأخطاء والجرائم والتغطية، فضلاً عن عزلته الدولية، خاصة على الصعيد الأوروبي، وداخلياً في الولايات المتحدة، ما كان له أن يستمر لولا أن الضغوط التي مورست عليه لم تكن كافية لكسر هذا العناد المستحكم.

إلا أن هذه المعادلة لن تستمر طويلاً، خاصة مع تصاعد المعارضة الدولية، حتى من قبل حلفائه، وذلك بسبب إستراتيجية الاحتلال الكامل لمدينة غزة.

ولعل من أبرز مظاهر هذا التطور الرامي إلى كسر عناد نتنياهو، البيان الأخير للدول الأوروبية الثماني، وما أعلن عنه أوروبياً من وقف لإرسال الأسلحة، والتلويح بفرض عقوبات، مما يحرج ترامب أيضاً، إذ لم يعد من المجدي ترك نتنياهو ليستمر في ممارسة عناده، الذي لا محالة سيقوده إلى الخسران.

ومما يعزز هذا التوقع بكسر عناد نتنياهو في الأيام المقبلة، الإنجازات العسكرية الميدانية التي تحققها المقاومة الفلسطينية يومياً، وتمسكها بمطالبها وشروطها العادلة والمحقة لتوقيع اتفاق ينهي الحرب.

وهذا يعني أن موقف المقاومة والشعب الفلسطيني يشكل سداً منيعاً وجداراً جباراً لن يتمكن نتنياهو من قهره، إذا ما أقدم على ارتكاب جريمة احتلال مدينة غزة.

وخلاصة القول، إذا ما حاولنا تلخيص العلاقة بين مقدري الموقف والمحللين السياسيين طوال سنة وعشرة أشهر في تقييم سياسات نتنياهو وممارساته في حرب غزة، لوجدنا أنه في كل مرحلة كان يطرح برنامجاً عسكرياً للهجوم وحسم الحرب، ومصعداً للحرب في كل مرة، بما يوهم بعد كل فشل أنه بصدد خطة جديدة ستأتي بالحل الذي يطرحه.

وهذا ما يحدث الآن في هذه المرحلة التي أعلن فيها نتنياهو إستراتيجية احتلال مدينة غزة. وهو ما ستختلف فيه التقديرات أو التحليلات، كما في كل مرة.

لكن دون أخذ العبرة الأساسية من التجارب السابقة، وهي أن نتنياهو لا يملك إستراتيجية مدروسة ومفكراً فيها جيداً، وإنما يتبنى في كل مرة إستراتيجية تعوض فشل الإستراتيجية التي سبقتها، وذلك من خلال الإيحاء بأنها خطة جهنمية جديدة. ونتنياهو يعتمد هذا النهج المكرر بسبب عدم تسليمه بوجود تحليل دقيق لميزان القوى الذي أفشل خططه السابقة.

هذا، وما زال أمام نتنياهو في غزة ما يفشل إستراتيجيته الذاهبة إلى احتلال مدينة غزة. طبعاً ما لم تفشل قبل أن تبدأ.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة